ظهر الخميس 3 فبراير/شباط 2011: مختلسا "القول" من زمن "الفعل" أجلس لكتابة هذه السطور، موزعا بين تأنيب الضمير كجندي فار من الميدان، وإلحاح بلا حدود لضرورة تسجيل هذه "الشهادة"، التي ستكون كتابتها بعد ساعات من الآن إما غير ممكنة، وإما من دون قيمة.
إن مصر -شعبها وجغرافيتها وتاريخها- تقف ولا سلاح لها إلا إرادة ثوارها، في مواجهة عصابة شرسة اغتصبت سلطتها ومقدراتها. عصابة لا تتسلح فقط بأحدث الأسلحة وبدعم لا حدود له من الغرب الاستعماري، لكنها تتسلح أيضا بخسة لا حدود لها، وانعدام ضمير لا سابقة له في التاريخ، لدرجة لا يكفي معها أن توصف بأنها سلطة احتلال، لأن سلطات الاحتلال تتحلى -أحيانا- بشيء من نعمة الإحساس، وتراعي فضيلة الشرف ولو في حدود المظهر.
الأمن -الذي طالما تغنى به أزلام "مبارك"- تأكد أن مهمة عناصره كانت تقتصر طيلة الوقت على حماية عصابة السلطة من غضب الشعب، وتمكين تلك العصابة من مواصلة سرقة واستنزاف مقدرات مصر، لدرجة أن أحد ضباط ما يسمى "أمن الدولة" يعيش على ما يصفه له أبوه -الطبيب النفساني- من علاجات للاكتئاب، لأنه -وكما قال لي ذات يوم- اكتشف أن مهمته هي حراسة اللصوص الكبار وتحقيق رغباتهم، التي لخصها بقوله: لم أدخل كلية الشرطة لأتخرج قوادا. لهذا فإن ضباط وجنود الشرطة، وبمجرد انطلاق شرارة الثورة، انطلقوا يسرقون -لحساب أنفسهم- تلك الكنوز التي طالما سرقوها لحساب عصابة اللصوص الكبار، أو الكبار اللصوص.
تلك هي سلطة "مبارك" التي لا أعرف كيف تحملناها 30 سنة، ولا أملك أي دفاع يبرر جريمة "الصبر" عليها التي ارتكبتها وقتا طويلا، مهما قيل عن "هوامش" المقاومة التي كنت ألتجئ إليها مع غيري، ومهما كان حجم التضحيات التي قدمها آخرون أكثر مني، ذلك أننا لم نضح بأرواحنا، مثلما يفعل هؤلاء النبلاء الذين قادوا ثورة ليمنحونا فرصة الالتحاق بها .
لا فرق بين وزير الداخلية المخلوع "حبيب العادلي"، الذي كان يوصف بـ"حارس التوريث"، وخلفه "محمود وجدي" الذي جاء ليواصل الإجرام من حيث توقف سلفه فإن سفاحي الشرطة وأرباب السوابق الذين كون منهم "حبيب العادلي" تشكيلات عصابية هم أنفسهم الذين جاء "محمود وجدي" ليطلقهم على الثوار مع تصاريح وأوامر واضحة بالقتل، وهم كما نعلم لا يتحركون إلا بالأوامر.
مسؤولية "محمود وجدي" -باعتباره وزير الداخلية- لا شك فيها، مهما قيل عن تورط رئيس جهاز مباحث أمن الدولة "حسن عبد الرحمن" في التدبير للعدوان بنفسه، وذلك في الاجتماع الذي حضره مع جمال مبارك وصفوت الشريف وعدد من لصوص المال المتسترين بممارسة العمل السياسي والبرلماني. ذلك أن "حسن عبد الرحمن" حضر الاجتماع ممثلا لوزارة الداخلية، وعلى هذا فإن إدانته -المؤكدة- لا تعني براءة "محمود وجدي".
شعر كثير يمرق في الذاكرة كأنه هو الواقع الخشن، بعدما أصبح الشعر الحقيقي هو هذا الذي يكتبه ثوار أنقى من الثلج وأصفى من اللهب. ثوار رأيتهم بعيني يعالجون سفاحا أصيب أثناء مشاركته في محاولة قتلهم. ثوار أقر العالم كله بنبلهم، حتى في كندا -البعيدة- التي حدثني صديقي المهاجر إليها عن الاحترام الشديد الذي أصبح يلقاه المصريون -والعرب كلهم- من شعبها منذ بدأت الشاشات والصحف تتناقل أخبار وصور "أعظم ثورات الإنسانية" كما سماها صديق آخر، وهو عراقي يقيم في الإمارات، قائلا: أثبت المصريون فعلا أنهم شعب ينتمي إلى حضارة عريقة، وتجاوزت ثورتهم ما جسدته الثورات الكبرى في تاريخ الإنسانية، كالثورة الفرنسية والثورة الروسية.
من تونس انطلقت الشرارة، وفي مصر تتأصل الثورة، وعبر الخريطة العربية من أقصاها إلى أقصاها تؤكد أمتنا أنها ليست مجرد ظاهرة صوتية، وتجيب مصر -بلهجتها الدارجة- على سؤال "نزار قباني" متى يعلنون وفاة العرب؟ قائلة: في المشمش! وهي الإجابة نفسها التي تسمعها الآن سلطة "مبارك" وهي تطالبنا بتصديق وعودها.
أما الغرب الاستعماري فقد أبى هو الآخر إلا أن يفضح حقيقة تبعية نظام مبارك له، مسقطا -وإلى الأبد- فرية أزلام السلطة باتهام المقاومة الشريفة، سواء من اختارها أو من انحاز إليها، بأنها تستند إليه. حيث أكد قادة الغرب أن وجود نظام مبارك ضروري لاستمرار قدرتهم على نهب ثروة بلادنا وضروري لحراسة الكيان الصهيوني.
أو أن هذا هو المعنى الواضح لتصريح "توني بلير" بأن بقاء نظام "مبارك" ضروري لاستمرار ما سماه "التعاون الاقتصادي" وكذلك لضمان "أمن تل أبيب"، وهو أيضا المبرر الوحيد للنقص المتعمد في تعليقات الغرب على المشهد المصري، ذلك النقص الذي يتيح له الاستمرار في دعم ديكتاتورية ترتكب أسوأ الجرائم ضد الإنسانية، وهو مطمئن إلى أن بإمكانه التراجع والتنصل وإكمال الجمل الناقصة بكلمات تبرئه.
موبقات كثيرة تسقط كلها مع نظام أصبح وكل من ارتبط به جزءا من ماض مؤلم وقبيح، أما المستقبل فيكتبه الآن شباب وهبهم الله أقصى ما يمكن من نقاء وطهارة ثورية، مع وعي رائق لا شائبة فيه، أليسوا هم من حددوا ومنذ اللحظة الأولى، هدفهم في هتاف واضح يقول "الشعب يريد إسقاط النظام"؟ أليسوا هم من طهروا البلاد من رجس التحرش الجنسي ومن الفتنة الطائفية، وكلاهما نعلم الآن -يقينا- أنه من صنع نظام مبارك؟
ثم أليسوا هم من أعادوا المعنى إلى هتافنا الثوري التاريخي "لا مفاوضات إلا بعد الجلاء" مؤكدين أنه لا حوار إلا بعد رحيل الديكتاتور، من ناحية لأنه لا وجه للحوار بين ماض نسعى للخلاص منه، ومستقبل يحاول أن يشق طريقه على أرضنا. ومن ناحية أخرى لأن أي حوار الآن إنما سيكون بين "قاتل يدلى بسكين وقتلى يدلون بالأسماء".