ما معنى غض البصر ؟.
الحمد لله
أولا :
غض البصر في اللغة يعني كفه ومنعه من الاسترسال في التأمل والنظر .
يقول ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" :
" الغين والضاد ، يدلُّ على كفٍّ ونَقْص، (مثل) غضُّ البصر ، وكلُّ شيءٍ كففتَه فقد غَضَضْته " انتهى .
ويقول ابن منظور في "لسان العرب"
" وغَضَّ طَرْفَه وبَصره : كفَّه وخَفَضَه وكسره . وقيل : هو إِذا دانى بين جفونه ونظر " انتهى
ثانيا :
وهو في الشرع يشمل أمورا عدة :
1- غض البصر عن عورات الناس ، ومن ذلك زينة المرأة الأجنبية .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "مجموع الفتاوى":
" والله سبحانه قد أمر فى كتابه بغض البصر وهو نوعان : غض البصر عن العورة . وغضه عن محل الشهوة .
فالأول كغض الرجل بصره عن عورة غيره .
وأما النوع الثاني من النظر كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية ، فهذا أشد من الأول ، كما أن الخمر أشد من الميتة والدم ولحم الخنزير ، وعلى صاحبها الحد ... لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهى الخمر " انتهى .
2- غض البصر عن بيوت الناس وما أغلقت عليه أبوابهم :
يقول ابن تيمية "مجموع الفتاوى":
" وكما يتناول غض البصر عن عورة الغير وما أشبهها من النظر إلى المحرمات ، فإنه يتناول الغض عن بيوت الناس ، فبيت الرجل يستر بدنه كما تستره ثيابه ، وقد ذكر سبحانه غض البصر وحفظ الفرج بعد آية الاستئذان ، وذلك أن البيوت سترة كالثياب التى على البدن " انتهى .
ويقول ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين":
" ومن النظر الحرام النظر إلى العورات ، وهي قسمان : عورة وراء الثياب . وعورة وراء الأبواب " انتهى .
3- غض البصر عما في أيدي الناس من الأموال والنساء والأولاد والمتاع ونحوها .
قال تعالى : ( لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الحجر/88
قال ابن سعدي في "تفسيره":
" أي: لا تعجب إعجابا يحملك على إشغال فكرك بشهوات الدنيا التي تمتع بها المترفون ، واغترَّ بها الجاهلون ، واستغن بما آتاك الله من المثاني والقرآن العظيم " انتهى .
وقال أيضا:
" أي : لا تمد عينيك معجبا ، ولا تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والمُمَتَّعين بها ، من المآكل والمشارب اللذيذة ، والملابس الفاخرة ، والبيوت المزخرفة ، والنساء المجملة ، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا ، تبتهج بها نفوس المغترين ، وتأخذ إعجابا بأبصار المعرضين ، ويتمتع بها - بقطع النظر عن الآخرة - القوم الظالمون ، ثم تذهب سريعا ، وتمضي جميعا ، وتقتل محبيها وعشاقها ، فيندمون حيث لا تنفع الندامة ، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة ، وإنما جعلها الله فتنة واختبارا ، ليعلم من يقف عندها ويغتر بها ، ومن هو أحسن عملا " انتهى .
ثالثا :
يذكر العلماء في فوائد غض البصر أمورا كثيرة ، منها :
يقول ابن القيم رحمه الله في "الجواب الكافي" :
" وفي غض البصر عدة منافع :
أحدها : أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده ، وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى ، وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامره ، وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره .
الثانية : أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذى لعل فيه هلاكه إلى قلبه .
الثالثة : أنه يورث القلب أنسا بالله ، وجمعية على الله ، فإن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده من الله ، وليس على العبد شيء أضر من إطلاق البصر ، فانه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه .
الرابعة : أنه يقوي القلب ويفرحه ، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه .
الخامسة : أنه يكسب القلب نورا ، كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة ، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر ، فقال : ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) النور/30 ثم قال إثر ذلك : (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ) النور/35 أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه ، وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب ، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان ، فما شئت من بدعة وضلالة واتباع هوى واجتناب هدى وإعراض عن أسباب السعادة واشتغال بأسباب الشقاوة ، فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب ، فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام .
السادسة : أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل والصادق والكاذب ، ... والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله ، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ، فإذا غض بصره عن محارم الله عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته ، عوضة عن حبسه بصره لله ، ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة ، التي إنما تنال ببصيرة القلب ، وضد هذا ما وصف الله به اللوطية من العمه الذي هو ضد البصيرة فقال تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الحجر/72
السابعة : أنه يورث القلب ثباتا وشجاعة وقوة ، ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة ، كما في الأثر : ( الذي يخالف هواه يفر الشيطان من ظله ) ومثل هذا تجده في المتبع هواه من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها ، ما جعله الله سبحانه فيمن عصاه ، كما قال الحسن : ( إنهم وإن طقطقت بهم البغال ، وهملجت بهم البراذين ، فإن المعصية لا تفارق رقابهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه ) .
وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته ، والذل قرين معصيته ، فقال تعالى : ( ولِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) المنافقون/8 ، وقال تعالى : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) آل عمران/139 ، والإيمان قول وعمل ، ظاهر وباطن ، وقال تعالى : ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) فاطر/10 ، أي من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله وذكره ، من الكلم الطيب والعمل الصالح ، وفي دعاء القنوت : ( إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ) ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه ، وله من العز بحسب طاعته ، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه ، وله من الذل بحسب معصيته .